الحمد لله القائل في وصف عباده
المؤمنين: (إنما كان قول المؤمنين إذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم أن يقولوا
سمعنا وأطعنا وأولئك هم المفلحون. ومن يطع الله ورسوله ويخش الله ويتقه فأولئك هم
الفائزون .. النور/51-52)، والقائل عن الرافضين أوامره وأحكامه من المنافقين: (ألم
تر إلى الذين يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك يريدون أن
يتحاكموا إلى الطاغوت وقد أمروا أن يكفروا به ويريد الشيطان أن يضلهم ضلالاً
بعيداً. وإذا قيل لهم تعالوا إلى ما أنزل الله وإلى الرسول رأيت المنافقين يصدون
عنك صدودا .. النساء/ 60، 61) .. والصلاة والسلام على من أوحي إليه بقوله: (وما
أنزلنا إليك الكتاب إلا لتبين لهم الذي اختلفوا فيه وهدى ورحمة لقوم يؤمنون ..
النحل/ 64)، وبعد: فهذه
أولاً: الأدلة الصريحة
لوجوب النقاب
1: من المناسب – ونحن نعيش موسم
الحج وخير أيام الله على الإطلاق العشر الأوائل من ذي الحجة – أن نبدأ كلامنا عن
النقاب بالتذكير بحديث عبد الله بن عمر(1) وفيه يقول صلى الله عليه وسلم عندما سئل
عما يلبس المحرم والمحرمة من الثياب: (لا تنتقب المرأة المحرمة ولا تلبس
القفازين)، يعني لكون وجه المرأة ويديها في الإحرام – كما نص على ذلك أهل التحقيق
– كبدن الرجل في جواز إظهاره وحرمة ستره بالمُفَصَّل على قدره، وقول من قال من
السلف: (إحرام المرأة في وجهها ويديها) إنما أراد به هذا المعنى .. وفي معنى حديث
ابن عمر السابق جاء قوله أيضاً وذلك فيما رواه أبو داود والبيهقي والحاكم ورجاله رجال
الصحيح: (نهى النبي صلى الله عليه وسلم في إحرامهن عن القفازين والنقاب) .. ولا
يعني وجوب كشفهما عند القيام بركن الإحرام والنهي الصريح عن لبسهما إبَّانِه، سوى
أن المرأة في غير الإحرام ملزمة على سبيل الفرض بسترهما كما سيأتي في نص كلام
القاضي ابن العربي .. قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: \"وهذا مما يدل
على أن النقاب والقفازين كان معروفين في النساء اللاتي لم يُحرمن، وذلك يقتضي ستر
وجوههن وأيديهن\"[مجموع الفتاوى1 5/ 370، 371].
2: وأن نثنِّي في ذكر أدلة فرضية
النقاب بما جاء من تقييد حديث ابن عمر – سالف الذكر – بعدم مرور الرجال الأجانب
بحضرة النساء، أو تخصيصه مع ذلك بستر الوجه واليدين بغير المفصَّل على قدرهما من
نحو الستر بالكم والملاءة والثوب .. وقد جاء هذا التقييد أو التخصيص في حديث أم
المؤمنين عائشة رضي الله تعالى عنها(2)، قالت: (كان الركبان يمرون بنا ونحن مع
رسول الله صلى الله عليه وسلم محرمات، فإذا حاذوْنا سدلت إحدانا جلبابها من رأسها
على وجهها، فإذا جاوزنا – أي ركب الرجال – كشفناه) .. كذا بما يعني فرضيته في غير
الحج من باب أولى على ما سيأتي، وكذا بلفظ الجمع (محرمات) وضمير (نا) في: (بنا)
(حاذونا) (إحدانا) (جاوزنا) (كشفناه) الدال على اشتهاره وشيوعه بين نساء الصحابة،
قال في عون المعبود في قولها (يمرون بها): \"أي علينا معشر النساء\"(3).
3- كما جاء التقييد أو التخصيص
فيما أخرجه الحاكم [1/ 454 وقال عنه صحيح على شرط البخاري ومسلم] من حديث أسماء
بنت أبي بكر رضي الله عنهما قالت: (كنا نغطي وجوهنا من الرجال، وكنا نمتشط قبل ذلك
في الإحرام)، ولاحظ أن أسماء هذه، التي تجتهد هنا في إخفاء وجهها عن الرجال حتى
فيما لها في إظهاره وجوباً لأجل الإحرام مندوحة، هي عينُها التي ادُعي عليها ونسب
إليها بطريق الكذب وفي غير الإحرام – بل وهي داخلة على رسول الله وعليها ثياب رقاق
– حديث: (يا أسماء إذا بلغت المرأة المحيض لم يصلح أن يُرى منها إلا هذا وهذا)،
وأشار إلى وجهه وكفيه، فهذا وغيره من الأحاديث غير الصحيحة لا يجوز أن يقال أنها
متعارضة مع هذه الأحاديث الصحيحة التي فيها التغليظ الشديد والتحريم الموثق.
4- وجاء التقييد أو التخصيص كذلك
في حديث فاطمة بنت المنذر ولفظه: (كنا نخمر وجوهنا ونحن محرمات مع أسماء بنت أبي
بكر رضي الله عنهما، تعني جدتها)(4)، وفيه وفي سابقَيه، دليل دامغ على عموم ذلك
للنساء سواء كن في عهد الصحابة أو ما بعده لأن أسماء كانت جدة لفاطمة، ودليل دامغ
على أن مواكب المؤمنات إلى بيت الله الحرام كن يغطين وجوههن عن أعين الرجال مع
معرفتهن بوجوب إظهاره أثناء الإحرام، ودليل دامغ أيضاً على فرضيته على عمومهن في
غير الحج بطريق الأولى .. ذلك أن الواجب – كما قرر علماء الأصول وهو هنا وجوب نزع
النقاب والقفازين المفروض على النساء أثناء إحرامهن، باعتبار أن الإحرام ركن الحج
الأول بعد النية – لا يُترك إلا لما هو أوجب منه وهو هنا لبسهما إبَّانه عند
التعرض للرجال .. فما يكون عليه الحال والحكم إذاً في غير الحج سوى الفرضية
والوجوب من باب أولى؟؟!! .. والقول بخلاف ذلك هدم ونقض لنصوص الوحي في هذا الباب
كتاباً وسنة – وإهمال وإبطال لما عليه صحابة النبي صلى الله عليه وسلم ذكوراً
وإناثاُ – وتعطيل واتهام واستخفاف بعقول وأفهام علماء وأئمة الهدى وعلماء الأمة
سلفاً وخلفاً.
وفي بيان ذلك وفي محصلة ما سبق
يقول الشافعي: \"ويكون للمرأة إذا كانت بارزة [أي: على قدر من الجمال] تريد
الستر من الناس أن ترخي جلبابها أو بعض خمارها أو غير ذلك من ثيابها من فوق رأسها،
وتجافيه عن وجهها حتى تغطي وجهها متجافية، كالستر على وجهها)\"[الأم 2/ 162]
.. ويقول القاضي أبو بكر ابن العربي المالكي: \"قوله في حديث ابن عمر: (لا
تنتقب المرأة المحرمة) وذلك لأن سترها وجهها بالبرقع فرض إلا في الحج، فإنها ترخي
شيئاً من خمارها على وجهها غير لاصق به، وتعرض عن الرجال ويعرضون عنها\"
[عارضة الأحوذي 4/ 56 المسألة الرابعة عشرة] .. وينقل ابن عابدين الحنفي عن صاحب
البحر المحيط قوله: \"ودلت المسألة على أن المرأة منهية عن إظهار وجهها
للأجانب بلا ضرورة، لأنها منهية عن تغطيته لحق النسك لولا ذلك، وإلا لم يكن لهذا
الإرخاء فائدة\"[رد المحتار على الدر المختار2/ 189].
5- ومن أدلة فرضيته قوله صلى الله
عليه وسلم فيما رواه الترمذي [1173] وابن حبان [329] من حديث ابن مسعود: (المرأة
عورة، فإذا خرجت استشرفها الشيطان)، وبنحوه روى الطبراني عنه [1/ 138]، وزاد:
(وإنها أقرب ما تكون من الله وهي في قعر بيتها)، ولا يعني قوله عليه السلام:
(المراة عورة) سوى أنه يجب ستر مواضع فتنتها وعلى القمة منها الوجه الذي هو مجمع
محاسن المرأة وأعظم ما يفتتن الرجال به ويقع بينهم التنافس في تحصيله إن كان
حسناً! وكم أضنى العشق المسبب عن النظر إلى وجوه النساء – وليس إلى أذرعهن ولا
أرجلهن التي لا خلاف على وجوب سترها مع أن الفتنة بهما دون الوجه – كثيراً وقتل
كثيراً، الأمر الذي يعني أن ستر هذه الوجوه هو الأولى باعتبار أنها أماكن الحسن
ومواضع الافتتان، وما عليه التعويل في الحكم على المرأة بالجمال وعكسه .. وتصريح
العلماء بأن الوجه والكفين ليسا بعورة إنما كان عند كلامهم على شرط ستر العورة في
أبواب (شروط صحة الصلاة).
أ- قال الشافعي في (باب كيف لبس
الثياب في الصلاة): \"وكل المرأة عورة إلا كفيها ووجهها)\"،
وقال:\"وعلى المرأة أن تغطي في الصلاة كل ما عدا كفيها ووجهها\"[الأم1/
77]، ونقل عنه الهيتمي في الزواجر أن الوجه والكفين ظهرهما وبطنهما إلى الكوعين
عورة في النظر من المرأة ولو أمة على الأصح، وإن كانا ليسا عورة في الصلاة، وهذا
ما عليه أصحاب الشافعي، وما نُقل عن بعضهم من حل النظر إلى الوجه والكف إن أمنت
الفتنة ليس بمعول عليه عندهم[ينظر روح المعاني 18/ 207، 208]، وقد مر بنا كلامه في
تنقب المحرمة إذا حازت الرجال .. وقال موفق الدين ابن قدامة صاحب المغني في (باب
صفة الصلاة) 1/ 101: \"قال مالك والأوزاعي والشافعي: جميع المرأة عورة إلا
وجهها وكفيها وما سوى ذلك يجب ستره في الصلاة) .. وقال الشهاب: \"وما ذكره –
أي البيضاوي – من الفرق بين العورة في الصلاة وغيرها – يعني في وجوب ستر الوجه
والكفين في غير الصلاة دونها – مذهب الشافعي رحمه الله\"[عناية القاضي6/
373].
وبناء على ذلك فقد رجح الغزالي في
(الإحياء) أن كشف وجه المرأة للأجنبي حرام، وأن نهي الأجنبية عنه – يعني عن كشفه –
واجب، قال الزبيدي: \"قوله لها في تلك الحالة: (لا تكشفي وجهك، أي: استري
وجهك) واجب أو مباح أو حرام، لا يخلو من أحد الثلاثة، فإن قلتم: إنه واجب، فهو
الغرض المطلوب لأن الكشف معصية والنهي عن المعصية حق\"(5) .. كما نص الإمام
النووي على أنه \"يحرم نظر فحل بالغ إلى عورة حرة أجنبية، وكذا إلى وجهها
وكفيها عند خوف الفتنة وكذا عند الأمن على الصحيح\"، كذا في المنهاج، ووجهه
الإمام باتفاق المسلمين على منع النساء من الخروج سافرات الوجوه، وبأن النظر محرك
للشهوة ومظنة للفتنة، وقد قال تعالى: (قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم .. النور/
30)، واللائق بمحاسن الشريعة سد باب الذرائع إلى المحرم، والإعراض عن تفاصيل
الأحوال أي بشهوة أو بغير شهوة، كما قالوه في الخلوة مع الأجنبية، قال العلامة شمس
الدين الرملي الشهير بالشافعي الصغير معلقاً: \"وبه اندفع القول بأنه غير
عورة\" [نهاية المحتاج إلى شرح المنهاج 6/ 187وينظر نيل الأوطار للشوكاني
2/18] .. وما قاله النووي قال به الأصطخري وأبو علي الطبري واختا ره الشيخ أبو
محمد، وبه قطع الشيخ أبو إسحاق الشيرازي والروياني وغيرهم.
قال العلامة تقي الدين السبكي:
\"إن الأقرب إلى صنع الأصحاب أن وجهها وكفيها عورة في النظر لا في
الصلاة\"، بل نص بعضهم على وجوب ستره حتى في الصلاة إذ لم يمكن الاحتراز عن
نظر الرجال، وعليه ففي غير الصلاة من باب أولى، يقول الخطيب الشربيني:
\"ويكره أن يُصلي في ثوب فيه صورة، وأن يصلي الرجل ملثماً والمرأة منتقبة،
إلا أن تكون في مكان وهناك أجانب لا يحترزون عن النظر إليها، فلا يجوز لها رفع
النقاب\"(6) .. وفي حواشي الشرواني والعبادي: \"من تحققت من نظر أجنبي
لها، يلزمها ستر وجهها عنه، وإلا كانت معينة له على حرام، فتأثم\"[حواشي
الشرواني والعبادي6/ 193].
ومحصلة ما ارتآه الشافعية وجوب ستر
وجه المرأة وكفيها عدا في الحج وفي الصلاة في حال عدم محاذاة الرجال .. قال الشهاب
في شرحه: \"ومذهب الشافعي رحمه الله كما في الروض وغيرها، أن جميع المرأة
عورة حتى الوجه والكف مطلقاً\"[عناية القاضي وكفاية الراضي6/ 373] .. وقال
البلقيني: \"الفتوى والمذهب على ما جاء في المنهاج من الحرمة مطلقاً .. وهو
الراجح\"(7).
ب: رأي الحنابلة: قال أحمد:
\"ظفرها عورة، فإذا خرجت فلا تبين شيئاً، ولا خُفيها فإنه يصف القدم، وأحب أن
تجعل لكمها زراً عند يديها\"، نقله عنه العلامة ابن مفلح والشيخ يوسف مرعي
[ينظر الفروع لابن مفلح1/ 601، 5/ 154 وغاية المنتهى في الجمع بين الإقناع والمنتهى
للشيخ يوسف مرعي3/ 7] .. كما نقل العلامة ابن مفلح عن شيح الإسلام ابن تيمية قوله:
\"وكشف النساء وجوههن يراهن الأجانب، غير جائز\"[الآداب الشرعية والمنح
المرعية1/ 193] .. وقال الإمام ابن قدامة: \"لا يختلف المذهب في أنه يجوز
للمرأة كشف وجهها في الصلاة، وأنه ليس لها كشف ما عدا وجهها وكفيها، وفي الكفين
روايتان\"[المغني1/ 601، 602]، قال ابن عبد البر: \"إجماع العلماء على
أن للمرأة أن تصلي المكتوبة ويداها ووجهها مكشوف ذلك كله منها، وتباشر الأرض به،
وأجمعوا على أنها لا تصلي منتقبة ولا عليها أن تلبس قفازين في الصلاة\"(8).
قال منصور بن إدريس البهوتي:
\"لا خلاف في المذهب أنه يجوز للمرأة الحرة كشف وجهها في الصلاة، ذكره في
المغني وغيره، قال جمع: وكفيها .. وهما – أي الكفان والوجه – من الحرة البالغة
عورة خارجها – أي الصلاة – باعتبار النظر كبقية بدنها، لما تقدم من قوله صلى الله
عليه وسلم: (المرأة عورة)\"[كشف القناع على متن الإقناع1/ 243] .. وقال الشيخ
مصطفى السيوطي الرحيباني: \"والحرة البالغة كلها عورة في الصلاة حتى ظفرها
وشعرها .. إلا وجهها، لا خلاف في المذهب أنه يجوز للمرأة الحر كشف وجهها في
الصلاة، ذكره في (المغني) وغيره\"[مطالب أولي النهى في شرح غاية المنتهى
للشيخ المرعي الكرمي1/ 330] .. وقال الشيخ عبد القادر بن عمر الشيباني:
\"والحرة البالغة كلها عورة في الصلاة حتى ظفرها وشعرها إلا وجهها، والوجه
والكفان من الحرة البالغة عورة خارج الصلاة باعتبار النظر كبقية بدنها\"[نيل
المآرب بشرح دليل الطالب1/ 39] .. وقال المرداوي: \"وقال بعضهم: (الوجه عورة،
وإنما كُشف في الصلاة للحاجة)، قال الشيخ تقي الدين – ابن تيمية –: (والتحقيق أنه
ليس بعورة في الصلاة وهو عورة في باب النظر، إذ لم يجز النظر إليه)\"[الإنصاف
في معرفة الراجح من الخلاف على مذهب الإمام المبجل أحمد بن حنبل لأبي الحسن
المرداوي الحنبلي 1/ 452] .. ويقول ابن قيم الجوزية: \"العورة عورتان: عورة
في الصلاة، وعورة في النظر، فالحرة لها أن تصلي مكشوفة الوجه والكفين، وليس لها أن
تخرج في الأسواق ومجامع الناس كذلك\"[القياس في الشرع الإسلامي ص 69] .. وقريب
من اتجاه ابن تيمية وتلميذه في التوفيق بين هذه الآراء الشاذة، يقول المحقق أبو
النجا شرف الدين موسى الحجازي: \"والمرأة البالغة كلها عورة في الصلاة حتى
ظفرها وشعرها إلا وجهها، قال جمع: وكفيها، وهما – أي الكفان – والوجه عورة خارجها
باعتبار النظر كبقية بدنها[الإقناع1/ 88]، وقال المرداوي أيضاً فيما نقله عن
الإمام أحمد: \"كل شيء منها عورة حتى ظفرها\" .. قال:
جـ: \"وهو قول
مالك\"[(الصارم المشهور على أهل التبرج والسفور) للتويجري ص 96 و(الرد القوي)
له ص 245]، وبعدم جواز إبداء المرأة وجهها وكفيها للأجانب لدى المالكية، صرح ابن
المنير فقال: \"إن كل بدن الحرة لا يحل لغير الزوج، والمحرَّم: النظرُ إلى
شيء منها إلا لضرورة كالمعالجة وتحمل الشهادة\"[روح المعاني18/ 207 مجلد10]
.. وقال القاضي ابن العربي المالكي في (أحكام القرآن)2/ 18: \"والمرأة كلها
عورة، بدنها وصوتها، فلا يجوز كشف ذلك إلا لضرورة أو لحاجة كالشهادة أو داء يكون
ببدنها\" .. وما ورد عن القاضي عياض بوجوب غض البصر على الرجل واختصاص زوجات
النبي صلى الله عليه وسلم بتغطية وجوههن وأكفهن، تعقبه الحافظ ابن حجر بقوله:
\"وليس فيما ذكره دليل على ما ادعاه\" [ينظر الفتح8/ 391 وينظر11/ 12]
.. ومن ورد عنه من المالكية من غير القاضي عياض خلاف ما اشتهر لديهم وخالف إمام
مذهبه، فليس لكون أمر ستر الوجه والكفين عنده على غير الوجوب، وإنما لكون علة
تغطيتهما: خوف الفتنة المحققة، لا لكونهما عورة .. يقول الشيخ أحمد الدردير في
(أقرب المسالك إلى مذهب مالك): وعورة المرأة مع رجل أجنبي عنها جميع البدن غير
الوجه والكفين، وأما هما فليس بعورة، وإن وجب عليها سترهما لخوف الفتنة\"،
وعليه فأئمة المذهب على القول بوجوب النقاب أياً ما كانت العلة، وإلا فكيف يستقيم
قول بعضهم بحق المحرمة: \"متى أرادت الستر عن أعين الرجال جاز لها ذلك مطلقاً
علمت أو ظنت الفتنة بها أم لا، نعم إذا علمت أو ظنت الفتنة بها كان سترها
واجباً\"[حاشية الدسوقي على الشرح الكبير1/ 214] .. وقد علمنا أن سترها للوجه
والكفين إبان إحرامها دال على الوجوب بطريق الأولى إذ لا يترك واجب وركن الإحرام –
بنزع نقابها وقفازيها – إلا لما هو أوجب منه .. وسيأتي المزيد من أقوال أئمة
التفسير ممن كانوا من أصحاب هذه المذاهب الثلاثة.
د: والمرجح لدى الحنفية (أصحاب
مدرسة الرأي): هو ما عليه جمهرة فقهاء الأمة من وجوب ستر وجه المرأة وكفيها .. وإن
اختلفت علة التحريم عند أكثرهم وكانت بالأساس: خوف الفتنة لا لكون ذلك عورة، وإنما
قلت: (عند أكثرهم): لأن هناك من أطلقه ولم يقيده بخوف فتنة، وهناك من نص على أن
العلة في تغطية وجه المرأة كونه عورة وأن هذا هو المعتمد في المذهب .. وقد مر بنا
ما نقله ابن عابدين عن صاحب البحر المحيط، وسيأتي كلام الإمام النسفي أثناء الحديث
عن آية الإدناء، وكذا العلامة أبي بكر الجصاص الحنفي، القائل بهذا، وذلك إبان ذكر
كلامه في الأدلة الثلاثة الماثلة في قوله تعالى: (يا أيها النبي قل لأزواجك وبناتك
ونساء المؤمنين يدنين عليهن من جلابيبهن)، وقوله: (وإذا سألتموهن متاعاً فاسألوهن
من وراء حجاب)، وقوله: (وقرن في بيوتكن ولا تبرجن تبرج الجاهلية الأولى)، وكذا
كلام غيرهما من أئمة المذهب.
وهذا هو الجرداني – أحد شيوخ
الحنفية – ينص فيما نقله عنه البيانوني في (الفتن) ص197وإسماعيل المقدم في (أدلة
الحجاب) ص 463 على أن \"عورة المرأة بالنسبة لنظر الأجنبي إليها جميع بدنها،
بدون استثناء شيء منه أصلاً ولو كانت عجوزاً شوهاء، فيحرم على الرجل أن ينظر إلى
شيء منها ولو بغير شهوة .. ويجب أن تستر عنه، وهذا هو المعتمد\" .. وسواء
أكانت العلة في تغطية وجه وكفي المرأة، كونها عورة أو لخوف الفتنة التي لا يخلو
منها زمان أو مكان، فالحكم والنتيجة في النهاية واحدة.
يقول صاحب (فيض الباري على صحيح
البخاري): \"وأفتى المتأخرون بسترها – أي الوجه والكفين – لسوء حال
الناس\" [فيض الباري للإمام محمد أنور الكشميري 1/254]، وقال العلامة ابن
نجيم: \"وفي فتاوى قاضيخان: لا تكشف وجهها للأجانب من غير ضرورة، وهو يدل على
أن هذا الإرخاء، عند الإمكان ووجود الأجانب واجب عليها\"، وقال أيضاً:
\"قال مشايخنا: تُمنع المرأة الشابة من كشف وجهها بين الرجال في زماننا
للفتنة\"[البحر الرائق شرح كنز الدقائق2/ 381، 1/ 283]، وفي المنتقى:
\"تمنع الشابة من كشف وجهها لئلا يؤدي إلى الفتنة، وفي زماننا المنع واجب بل
فرض لغلبة الفساد\"[نقلاً عن اللباس والزينة في الشريعة الإسلامية ص141] ..
وفي الهدية العلائية: \"ويُنظر من الأجنبية ولو كافرة إلى وجهها وكفيها فقط
للضرورة .. وتمنع الشابة من كشف وجهها عند خوف الفتنة\"[نقلاً عن (فقه النظر
في الإسلام) للشيخ محمد أديب كلكل ص 141]
ولكل عاقل أن يساءل نفسه: إذا كانت
الفتنة في زمن الأوائل على هذا النحو، فما يكون عليه الحال إذاً في زماننا؟ .. على
أن الضابط في قول الأئمة: (عند خوف الفتنة) \"إنما يعلم في ناظر خاص، وأما
بالنظر إلى جماهير الناس الذين تبرز المرأة سافرة أمامهم، فلا يتصور عدم خوف
الفتنة منهم جميعاً، فيتحتم المنع من السفور أمامهم على هذا التعليل، وبهذا يظهر
مذهب أبي حنيفة وأصحابه في المسألة\"[أدلة الحجاب لإسماعيل المقدم ص464 عن
الفتن ص 197].
وعلى ما هو الإجماع – لديهم ولدى
سواهم – لا يجوز للمرأة كشف وجهها وكفيها عند عدم أمن الفتنة، وأقوال القائلين
بذلك من الأحناف، هي من الشهرة والكثرة بمكان .. والأوجب لدى أبي حنيفة وأصحابه
ستر وجه المرأة عند مظنة الخوف من حدوث الفتنة أو كان ذلك لشهوة، فقد روى الحسن عن
أبي حنيفة أنه \"يحل النظر إلى مواضع الزينة من المرأة من غير شهوة، وأما عن
شهوة فلا، لقوله صلى الله عليه وسلم: (العينان تزنيان) وليس زنا العينين إلا النظر
عن شهوة\"، ثم قال: \"والأفضل للشاب غض البصر عن وجه الأجنبية وكذا
الشابة، لما فيه من خوف حدوث شهوة والوقوع في الفتنة، ويؤيده المروي عن ابن مسعود
رضي الله تعالى عنه أنه قال في قوله تعالى: (إلا ما ظهر منها): أنه الرداء
والثياب، فكان غض البصر وترك النظر أزكى وأطهر\"[بدائع الصنائع 5/ 123] ..
وقال السرخسي في المبسوط10/ 153: \"وهذا كله – يعني النظر إلى وجه المرأة
وكفيها – إذا لم يكن النظر عن شهوة، فإن كان يعلم أنه إن نظر اشتهى لم يحل له
النظر إلى شيء منها\" .. وجاء في الدر المختار: \"يُعزِّر المولى عبده
والزوج زوجته على تركها الزينة، أو كلمة لتُسمعها أجنبي، أو كشف وجهها ل غير
مَحرَم\"[هامش رد المحتار شرح الدر المختار لابن عابدين3/ 261] يريد: أن
للسيد معاقبة أيٍّ من أمته أو زوجه إذا تركت إحداهما الزينة له، أو قالت كلمة
أرادت أن تسمعها لأجنبي أو كشفت وجهها لغير مَحرَم .. وجاء فيه أيضاً:
\"وتُمنع المرأة الشابة من كشف الوجه بين الرجال، لا لأنه عورة بل لخوف الفتنة،
كمسِّه وإن أمنت الفتنة، لأنه أغلظ، ولذا ثبتت به حرمة المصاهرة\"، قال ابن
عابدين في شرحه عليه: \"المعنى: تمنع من الكشف لخوف أن يرى الرجال وجهها فتقع
الفتنة، لآنه مع الكشف قد يقع النظر إليها بشهوة، قوله: (كمسه) أي كما يمنع الرجل
من مس وجهها وكفيها وإن أمن الشهوة\"[السابق].
0 تعليق على موضوع : بحث جاهز بعنوان فرضية الحجاب والنقاب
الأبتساماتأخفاء الأبتسامات